سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


قلت: {أمة}: حال من {أمتكم} أي: متحدة أو متفقة، والعامل فيه ومعنى الإشارة، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنّ هذه} الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون، واتفقوا عليها، وهو التوحيد، هي {أُمتكم} أي: ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها، ولا تخرجوا عنها، حال كونها {أمةً واحدةً}، غير مختلفة فيما بين الأنبياء- عليهم السلام- وإن اختلفت شرائعهم. وفي الحديث: «الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ، أُمهَاتُهمْ شتَّى، وأبوهم واحد» والعلات: الضرائر، أي: شرائعهم مختلفة، وأبوهم واحد، وهو التوحيد. قال القشيري: {وأنا ربكم فاعبدون} أي: ربيتكم؛ اختيارًا، فاعبدوني؛ شكرًا وافتخارًا. اهـ. والخطاب للناس كافة.
{وتقطعوا أمرهم}، أصل الكلام: وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم. إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة، على طريقة الالتفات؛ ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين، والمعنى: فجعلوا أمر دينهم فيما {بينهم} قِطَعًا، وصاروا أحزابًا متفرقة، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأديان؟ ثم توعدهم بقوله: {كُلٌّ إِلينا راجعون} أي: كل واحد، من الفرق المتقطعة، راجع إلينا بالبعث، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم.
ثم فصَّل الجزاء فقال: {فمن يعملْ} شيئًا {من الصالحات وهو مؤمنٌ} بالله ورسله وبما يجب الإيمان به. قال القشيري: (وهو مؤمن، أي: في المآل بأن يختم له به)، وكأنه يشير إلى الخاتمة؛ لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله، والعياذ بالله، {فلا كُفْرَانَ لسَعْيِهِ} أي: لا حرمان لثواب عمله، بل سعيُه مشكور مقبول، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه، وعبّر عن ذلك بالكفران، الذي هو ستر النعمة وجحدها؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عنه. وعبّر عن العمل بالسعي؛ لإظهار الاعتداد به، {وإِنّا له} أي: لسعيه {كاتبون}؛ مُثبتون في صحائف أعمالهم، نأمر الحفظة بذلك، لا نغادر من ذلك شيئًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصوفية- رضي الله عنهم-، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وفي حال نهايتهم- وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وإشراق شمس العرفان، الذي هو مقام الإحسان، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء، وهو التوحيد الخاص- متفقون، وفي ذلك يقول القائل:
عباراتنا شتى وحسْنُك واحد *** وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير
لأن ما كان ذوقًا ووجدًا لا يختلف، بل يجده كل من له ذوق سليم. نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم، ومشاربُهم على حسب إعطائهم نفوسَهم وبيعها لله، وتتفاوت أيضًا بحسب التخلية والتفرغ، وبحسب الجد والاجتهاد، وكلهم على بصيرة من الله وبينة من ربهم: نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين.


قلت: {حرام}: مبتدأ، وفيه لغتان: حرام وحِرْم، كحلال وحِلّ. و{أنهم...} الخ: خبر، أو فاعل سد مسده، على مذهب الكوفيين والأخفش. والجملة: تقرير لقوله: {كُلٌّ إلينا راجعون}، و{لا} نافية، أي: ممتنع على قرية أهلكناها عدمُ رجوعهم إلينا بالبعث، بل كل إلينا راجعون. وقيل: {لا} زائدة، والتقدير: ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم، {فإنهم}: على هذا: فاعل بحرام. قاله القصار. و{حتى}: ابتدائية، غاية لما يدل عليه ما قبلها، أي: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا، ويقولون: {يا ويلنا}. وقال أبو البقاء: {حتى}: متعلقة في المعنى بحرام، أي: يستقر الامتناع، أي: هذا الوقت. و{فإذا هي}: جواب {إذا}. وفي الأزهري: وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية؛ تأكيدًا، خلافًا لمن منع ذلك. قال تعالى: {فإذا هي شاخصة}، فإنه لو قيل: إذا هي، أو فهي شاخصة لصح. اهـ. وقيل: {يا ويلنا}: على حذف القول، أي: إذا فتحت قالوا: يا ويلهم. و{اقترب}: عطف على فُتحت.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وحرامٌ} أي: ممتنع {على} أهل {قريةٍ أهلكناها}؛ قدرنا هلاكها، أو حكمنا بإهلاكها؛ لعتوهم، {إنهم إلينا لا يَرجعون} بالبعث والحشر، بل لا بد من بعثهم وحشرهم وجزائهم على أعمالهم. وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع للكل؛ لقوله: {كُلٌ إلينا راجعون}؛ لأنهم المنكِرون للبعث والرجوع دون غيرهم. وقيل: المعنى: وممتنع على قرية، أردنا إهلاكها، رجوعهم إلى التوبة، أو ممتنع على قرية، أهلكناها بالفعل، رجوعهم إلى الدنيا. وفيه رد على مذهب القائلين بالرجعة من الروافض وأهل التناسخ، على أن {لا} صلة. وقُرئ بالكسر، على أنه تعليل لما قبله، فحرام، على هذا، خبر عن مبتدأ محذوف، أي: ذلك العمل الصالح حرام على قرية أردنا إهلاكها؛ لأنهم لا يرجعون عن غيرهم.
وقال الزجاج: المعنى: وحرام على قرية، أردنا إهلاكها، أن يُتَقَبَّلَ منهم عمل؛ لأنهم لا يرجعون، أي: لا يتوبون، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك، أو: فليستمر امتناعهم من الرجوع.
{حتى إذا فُتحت يأجوجُ ومأجوج} ونُفخ في الصور، وقامت القيامة، فيرجعون، ولا ينفعهم الرجوع. ويأجوج ومأجوج قبيلتان، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحها: فتح سدها، على حذف مضاف؛ أي: حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج، {وهم} أي: يأجوج ومأجوج، وقيل: الناس بعد البعث، {من كل حَدَبٍ} أي: نشز ومرتفع من الأرض، {يَنسِلُونَ}: يسرعون، وأصل النسل: مقاربة الخطو مع الإسراع. ويدل على عَود الضمير ليأجوج ومأجوج: قوله- عليه الصلاة والسلام-: «ويفتح ردم يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس، كما قال الله تعالى: {من كل حدب ينسلون...}»
الحديث، ويؤيد إعادتَه على الناس قراءة مجاهد: {من كل جدث}؛ بالجيم، وهو القبر.
ثم قال تعالى: {واقتربَ الوعدُ الحقُّ} أي: ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب، {فإِذا هي شاخصةٌ} أي: فإذا القصة أو الشأن، وهو {أبصارُ الذين كفروا} شاخصة، أي: مرتفعة الأجفان، لا تكاد تطرق من شدة الهول، حال كونهم يقولون: {يا ويلنا}؛ يا هلكتنا، هذا أوانك، فاحضري، {قد كُنَّا في غفلةٍ} تامة {من هذا} الذي دهَمنا؛ من البعث، والرجوع إليه تعالى، للجزاء، ولم تعلم، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنُذر، أنه حق، {بل كنا ظالمين} بتلك الآيات والنذر، مُكذبين بها، أو ظالمين أنفسنا؛ بتعريضها للعذاب المخلد. وهو إضراب عما قبله، من وصف أنفسهم بالغفلة، أي: لم نكن غافلين عنه، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنذر، بل كنا ظالمين بتكذيبهم، والله تعالى أعلم.
تذييل: رَوى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولا الآية: الدَّجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قرن عدن، تسوق النار إلى المحشر- أي الشام- تقيل معهم إذا قالوا، والدُّخان، والدَّابة، ثم يأجوج ومأجوج» قلت: وبعد موت يأجوج ومأجوج، تبقى مدة عيسى عليه السلام، في أَمَنَةٍ ورَغَدِ عَيْشٍ. قيل: سبع سنين، وقيل: أربعون. ثم يُقبض عيسى، ويُدفن في روضته صلى الله عليه وسلم، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين، فلا يبقى من يقول الله الله، قيل: مائة سنة، وقيل: أقل، ثم تخرب الكعبة، ثم يُنفخ في الصور للصعق، واقترب الوعد الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحضرة محرمة على قلبٍ خراب، أهلكه الله بالوساوس والخواطر، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين. فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر، ومن الشواغل والعلائق. قال بعض الصوفية: (حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس). فإذا اقترب وعد الحق، وهو أجل موته، قال: يا ويلنا إنا كنا عن هذا غافلين، لم نتأهب للقاء رب العالمين، حتى لقيتُه بقلب سقيم. والعياذ بالله.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنكم}، يا كفار قريش ومن دان دينكم، {وما تعبدون من دون الله} من الأصنام والشياطين؛ لأنهم، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم، في حكم عبادتهم، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم، وكل ما عُبد من دون الله ممن لا يعقل، للحديث الوارد في دخولهم النار، تبكيتًا لمن عبدهم؛ لأنهم لا يتضررون بالنار. وأما من يعقل فلا يدخل؛ حيث عبَّر بما. وقيل: يدخل، ثم استثناه بقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...}، فكل من عبد شيئًا من دون الله فهو معه، {حَصَبُ جهنم} أي: حطبها، وقرئ بالطاء، أي: وقودها {أنتم لها واردون} أي: فيها داخلون.
{لو كان هؤلاء آلهةً} كما زعمتم {ما وردوها}؛ ما دخلوا النار، {وكلٌّ فيها خالدون} أي: وكل من العابد والمعبود في النار خالدون. {لهم فيها زفير} أي: للكفار في النار أنينٌ وبكاء وعويل، {وهم فيها لا يسمعون} شيئًا؛ لأن في سماع بعضهم بعضًا نوع أُنس. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يُجعلون في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أُخَر لها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئًا.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، وصَنَادِيدُ قُريشٍ في الحَطِيمِ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثلاثمائة وَسِتونَ صَنَمًا، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ، فكلَّمهُ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أفْحَمَهُ، ثُمَّ تلا عليه وعليهم: {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم...} الآيات الثلاث. ثم أقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِبَعْرَى فرآهم يتساهمون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخفى الوَلِيدُ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بعضهم بما قاله، عليه الصلاة والسلام، فقال ابن الزبعرى للنبي صلى الله عليه وسلم: أأنت قلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك، ورب الكعبة، أَلَيْست اليَهُودُ تعبد عُزَيرًا، والنصارى تعبد المَسِيحَ، وبَنُو مُلَيْحٍ يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشياطِينَ الّتي أَمَرَتْهُم بِهذا، فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...}».
قلت: كل من عَبَدَ شيئًا من دون الله فإنما عَبَدَ في الحقيقة الشيطان؛ لأنه أمر به وزينه له، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة، حين تتحقق الحقائق، من عبادتهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} [الفُرقان: 17، 18] مع قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [العَنكبوت: 38]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أحب شيئًا حُشر معه، من أحب أولياء الله حُشر معهم، ومن أحب الصالحين حُشر معهم، ومن أحب الفجار حُشر معهم، ومن أحب الدنيا بُعث معها، ثم بعث إلى النار، وهكذا... المرء مع من أحب.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11